روائع مختارة | روضة الدعاة | السيرة النبوية | البناء القيمي.. في السيرة النبوية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > روضة الدعاة > السيرة النبوية > البناء القيمي.. في السيرة النبوية


  البناء القيمي.. في السيرة النبوية
     عدد مرات المشاهدة: 3573        عدد مرات الإرسال: 0

إن رصد مظاهر الحرص النبوي على إرساء منظومة القيم الإسلامية، واعتبارها اللبنة الأساس لبناء الإنسانية يحملنا على الجزم بأن شرف الانتماء لهذا الدين لا يتم إلا من خلال صون هذه القيم وحراستها، خصوصا في ظل متغيرات عالمية تدفع إلى التشكيك في جدواها وفاعليتها، وتعتبر ربانية المنبع القيمي تقييدا لحركة المسلم المعاصر وعائقا أمام الانطلاق الفكري والنهوض المجتمعي!

لقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في بيئة تمتزج فيها بقايا قيم الملة الحنيفية الإبراهيمية، من مروءة ونبل وكرم ووفاء. مع ما تولد عن الوثنية من قيم شائهة ومنحرفة كوأد البنات خشية الفقر والعار، والحمية الجاهلية التي تُسعر نار الحرب ثأرا لناقة أو بعير. فكان نهجه صلى الله عليه وسلم في اصطفاء القيم النبيلة والسمو بها نهجا غير مسبوق، وكان له عظيم الأثر في نسج الشخصية الإسلامية التي ستُرسي في أقل من قرن من الزمان دعائم حضارة لم تشهد لها البشرية مثيلا!

فما هي سمات هذا النهج النبوي، وما هي ابرز شواهده من السيرة النبوية؟

يقول الدكتور جابر قميحة: (.. ثم جاء الإسلام- خاتما للأديان- وهذه الخاتمية تقتضي أن يكون أكمل الأديان وأوفاها بحاجات الإنسانية، وأبرعها في معالجة الأدواء التي حوتها قائمة القيم الجاهلية، واختلف موقف الإسلام من هذه القيم تبعا لنوعيتها..

1- فقابل بعضها بالرفض وقضى عليه قضاء مبرما.

2- وأقر بعضها وشجعه ودعا إليه.

3- وسما ببعضها الآخر فعاد بالنفع على الدين والناس). (1).

فكان الموقف النبوي من القيم السائدة مبنيا على ثلاث: التحريم، والإقرار، والإعلاء مع مراعاة التدرج في إحداث النقلة الأخلاقية المطلوبة، وتمكين النفوس من التشرب المطمئن لهذه القيم في صيغتها الإسلامية الجديدة!

ومن يتصفح كتب السيرة يشعر أنه أمام رحلة مضنية في سبيل تثبيت القيم الإيجابية، وتخليص النفوس من درن القيم الجاهلية المنفرة من خلال الحرص على وصل البناء القيمي بالمنبع الرباني مصداقا لقوله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}. وبما أن المقال قد لا يتضح إلا بالمثال، فسنعرض في الأسطر الآتية شواهد لهذا النهج النبوي الفريد.

لقد بُعث المصطفى صلى الله عليه وسلم في بيئة تحفل بنماذج اللامساواة، بيئة يقوم نظامها الاجتماعي على مبدأ القوة، وتعتمد في موارد عيشها على التجارة والسلب والإغارة. فكان من الطبيعي أن تنشأ طبقة العبيد والأرقاء، وتُسن أعراف وتقاليد تُنزل العبد منزلة الدابة، لا بل أسوأ من الدابة نفسها!

كما كان التفاخر بالأحساب والأنساب باعثا على الانحياز للظالم مادام من ذوي القربى، واعتبار الذوبان في ذات القبيلة شرفا وعزا حتى وإن كان ديدنها الجور والبطش وأكل القوي للضعيف. يقول أحد شعرائهم في هذا الشأن- وهو دريد بن الصمة:

فـلما عصوني كنت منهم وقـد *** أرى غوايتهم وأنني غير مهتد

وهل أنا إلا من غُزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشد

فتوالت الآيات والأحاديث الشريفة التي تُبطل التفرقة العنصرية والمحسوبية، وتُرسي قاعدة المساواة بين الناس وتؤسس لمعيار جديد في التفاضل هو معيار التقوى. كما حرص النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف عدة على التطبيق الحازم لهذا المبدأ السامي، فقد روى الإمام مسلم بسنده عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب فقال: «يا أيها الناس إنما أهلك الذي قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». (2).

وبالمقابل نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم بارك القيم النبيلة التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي قبل بعثته، وأثنى عليها. ومنها الأحلاف التي كانت تعقدها القبائل العربية لنصرة المظلوم وإجارة المستجير وإغاثة الملهوف، كحلف (المطيبين) و(حلف الفضول) الذي شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار عبد الله بن جدعان، وأثنى عليه بقوله: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت». (3).

ذلك أن هذه الوثيقة الجاهلية تطرقت إلى الدفاع عن حق أساسي من الحقوق الإنسانية، وكان لها قصب السبق على (الماجنا كارتا) وإعلان المواطن الفرنسي بمئات السنين، مما يُثبت مرة أخرى أن البيئة العربية قبل الإسلام وإن لم تبلغ شأن الحضارتين الفارسية والبيزنطية إلا أنها لم تخل كذلك من شواهد النُبل الإنساني الذي ما كان على الإسلام إلا وصله بالسماء لتنهض أرقى الحضارات على أكتاف رعاة الغنم!!

وهذا ما حدث بالنسبة لقيم أخرى كان الباعث لها هو النخوة العربية والعصبية القبلية فحرص النبي صلى الله عليه وسلم على السمو بها وتنقيتها من شوائب الغريزة وعوامل الأثرة. ويظهر ذلك جليا من خلال موقف الإسلام من الشعر والقيم التي يروج لها.

فمن المعروف أن الأمة العربية أمة شاعرة، وأن الشعر ديوانها ونُسغها وخزان بطولاتها وثاراتها، والصائن لذاكرتها. أما ميلاد شاعر مفلق في القبيلة فحدث عظيم تقام له الأفراح وتسير بذكره الركبان. بيد أن المضمون الفكري والقيمي الذي يحفل به هذه الشعر كان يتقلب بين الوضاءة والوضاعة، ففيه الغزل الفاحش المتهتك، والهجاء المقذع، والمديح الموغل في الكذب. كما أن فيه الغزل العفيف، والتغني بأنبل الخصال الإنسانية من حلم وكرم وفداء، وصوغ الحكم والعظات التي كان لسماعها فعل السحر في النفوس.

فلما بُعث المصطفى صلى الله عليه وسلم وطرقت آيات القرآن الكريم مسامع قريش، أذهلهم البيان القرآني فحاولوا عبثا أن يُرجعوا الأمر إلى ملكة شعرية أو خبرة بالكهانة والسحر، لكن الحق سبحانه تولى الرد على مزاعمهم تخليصا لهم من حالة الذهول والارتباك في قوله تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين} (4).

أما السمو بالقيم الفنية وفي مقدمتها الشعر فسيبينه الرسول صلى الله عليه وسلم حين نزل قوله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات * وذكروا الله كثيرا * وانتصروا من بعدما ظُلموا * وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} (5) ذلك أنه لما نزلت هذه الآيات جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وهم يبكون، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقال: أنتم. وذكروا الله كثيرا. قال: أنتم. وانتصروا من بعد ما ظُلموا. قال: أنتم (6). وبذلك كشف النبي صلى الله عليه وسلم عن دلالة الاستثناء في الآيات وما يرمز إليه من دعوة للانسجام بين المضمون الشعري وتعاليم القرآن.

وحين أخذ الشعراء دورهم في المعركة بين الحق والباطل، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحث شعراء الصحابة على نُصرة الدين بألسنتهم كما ينصرونه بسيوفهم، خصوصا وأن ما يذيعه شعراء المشركين من هجاء للرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه كان بمثابة حملة إعلامية مغرضة تصد القبائل العربية عن الدخول في دين الله أفواجا. ومما رُوي في هذا المنحى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان بن ثابت رضي الله عنه: «شُن الغطاريف على بني عبد مناف، فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في غلس الظلام». ثم إن حسانا أخرج لسانه فضرب به أرنبة أنفه، وقال: والله يا رسول الله، إنه ليخيل إلي أني لو وضعته على حجر لفلقه، أو على شعر لحلقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيد الله حسانا في هجوه بروح القدس». (7).

هي إذن مداخل ثلاث عالج من خلالها النبي صلى الله عليه وسلم منظومة القيم السائدة: مدخل التحريم، ومدخل الإقرار، ومدخل الإعلاء والتسامي. وتلك خطوة أولى في البناء القيمي تلاها انصهار هذه القيم في بوتقة الإيمان لتكتسب صفة الخلود والثبات.

إن المتتبع لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم في إحداث النقلة المطلوبة من قيم الجاهلية إلى قيم الإسلام الحقة يُدرك سماحة الإسلام في ثنائه وإقراره للفضائل التي سادت قبل البعثة (حلف الفضول)، كما يُدرك فطرية هذه القيم وأصالتها وكفايتها للمجتمع الإسلامي أمام دعاوى العلمنة الزائفة! .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) د. جابر قميحة. المدخل إلى القيم الإسلامية. ص30 دار الكتاب المصري ط. 1، 1984.

(2) صحيح مسلم. رقم: 1688.

(3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (567) والبيهقي في سننه الكبرى (6/ 367) من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف وهو حديث صحيح وإسناده مرسل.

(4) سورة يس: الآية 69.

(5) سورة الشعراء: الآيات 223- 226.

(6) ابن كثير تفسير القرآن العظيم. 3/ 354. دار المعرفة بيروت 1982.

(7) ابن عبد ربه الأندلسي. العقد الفريد. 5/ 277 مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر. القاهرة ط. 3، 1965.

الكاتب: حميد بن خبيش.

المصدر: موقع المسلم.